أسرار تكشف لأول مرة عن موجة قتل هزت إيران في 1998
2018/12/04
الساعة 09:54 مساءاً
(الميناء نيوز- وكالات)
كان حادثاً طُلب منهم ألا يتحدثوا عنه بالمرة وقد التزموا بالفعل بهذا التحذير لعدة سنوات. مجموعة من 21 شاعراً وكاتباً وصحافياً إيرانيا اعتقدوا أنهم كانوا متوجهين لحضور مؤتمر في أرمينيا المجاورة في أغسطس/آب عام 1996. ولكن ما كان يُفترض أن يكون رحلة عادية تحول إلى واحدة من أكثر التجارب ترويعاً في حياتهم.
كانوا قد استأجروا حافلة لتصعد بهم الجبال وسط ضباب ممر حيران، وهو طريق متعرج حاد يفصل بين مقاطعتين في شمال إيران. بدأت الطريق التي تستغرق 18 ساعة تلقي بظلالها على المسافرين الذين أخذوا في الاستسلام للنوم واحداً بعد الآخر. في ساعات الفجر الأولى، انتزعتهم من غفوتهم هزة عنيفة سببها تسارع الحافلة بدرجة كبيرة مندفعة باتجاه حافة الهاوية. لحسن الحظ، اعترضت صخرة كانت موضوعة في مكان جيد طريق الحافلة وحالت دون تهاويها.
كان فرج ساركوهي (49 عاما)، وهو صحفي، ثم محرر في مجلة "أدينه" الثقافية التقدمية، أحد ركاب الحافلة. وهو يتذكر تلك اللحظة قائلاً: "بعد أن انحرفت الحافلة، خرجنا منها واحداً تلو الآخر ونحن مشوشون. اقترب منا سائق الحافلة واعتذر قائلاً إن النوم غلبه". واتفق الركاب وسائق الحافلة، بمجرد أن تعافوا من الصدمة الأولية، على مواصلة الطريق. ولكن الرحلة المحفوفة بالمخاطر لم تقف عند هذا الحد. فبعد دقائق قليلة، اتجه السائق مرة أخرى بالحافلة صوب الهاوية التي كانت على ارتفاع ألف قدم.
ومرةً أخرى، حال فقط دون تقدم الحافلة للحافة راكب حذر قفز إلى مقعد القيادة وسحب مكابح الحافلة وأوقفها وحال دون استمرار حركتها باتجاه الهاوية. وهكذا أنقذ حياة 21 راكباً مرةً أخرى.
Image caption
الحافلة كانت في طريق جبلي حينما جادت تهوي مرتين
خرج الكتاب من الحافلة بحذر وقد تقطعت بهم السبل وكانوا في حيرة من أمرهم بعد ما مروا به من أحداث. كان بإمكانهم رؤية مقدمة الحافلة وهي تتأرجح فوق حافة الهاوية وعجلاتها في الهواء. وبطريقةٍ ما، نجح السائق من الهرب ولم يعد بالإمكان رؤيته.
عندها أدرك فرج أن قيادة الحافلة صوب الهاوية كانت محاولة مقصودة. كما لاحظ وجود رجال أمن بملابس مدنية يجلسون في سيارة على طريق جبلي عادةً ما يكون خالياً في مثل هذا الوقت من ساعات الليل. يقول فرج إن رجال الأمن هؤلاء وصلوا مجموعة الكتاب إلى مكتبهم المحلي في مدينة مجاورة حيث احتجزوا هناك ليوم.
Image caption
فرج كان أحد الكتاب الذين نجوا في عام 1996
يقول فرج عما حدث لاحقاً: "أرغمونا على كتابة رسالة نوافق فيها على عدم الحديث لأي شخص بشأن الحادث. بعدها فهمنا أنهم أرادوا قتلنا جميعاً .. كنّا مصدومين فلم يكن بمقدورنا أن نستوعب هذا القدر الهائل من الكره والقسوة. كنّا مصدومين لدرجة أنه لم يكن بمقدورنا أن نتحدث لبعضنا البعض".
بقيت تفاصيل هذا الحدث الدرامي محفوظة وراء الأبواب المغلقة لعدة سنوات. ولم تستحضر إلى الذاكرة إلا بعد سلسلة من الأحداث التي تكشفت عام 1998.
الزوجان الناشطان سياسيا
في يوم أحد من شهر نوفمبر/تشرين ثاني ذاك العام، كانت باراستو فوروهار تجلس في منزلها في ألمانيا تنتظر مكالمة من والديها كما هي عادتها كل أسبوع حيث تطلع على أحدث أخبار أفراد عائلتها الذين تفصلها عنهم آلاف الأميال في موطنها الأم إيران. ظلت هذه المرة تنتظر بلا جدوى. وعندما اتصلت بها صحفية من بي بي سي تسألها عن والديها ازداد قلقها. تتذكر باراستو (36 عاما) قائلة: "قالت الصحفية لي إنها علمت من خلال أخبار التيليكس أن اعتداء وقع، إلا أنها لم تتمكن من إخباري بالحقيقة كلها".
Image caption
داريوش وبارفانا فوروهار ظلا متزوجين لنحو 40 عاما
وتضيف: "بعدها هاتفت صديقاً مقرباً لوالدي يعيش في منفى في باريس وحينها أبلغني بمقتلهما". كان داريوش و بارفانا قد قتلا بوحشية في منزل العائلة بجنوب طهران في 22 نوفمبر تشرين الثاني عام 1998. كان داريوش يبلغ من العمر 70 عاماً وقد طعن إحدى عشرة مرة، أما زوجته التي كانت تصغره باثني عشر عاماً فتلقت 24 طعنة.
كان كلاهما ناقداً صريحاً للسلطات في الجمهورية الإسلامية وكانا يديران حزباً علمانياً صغيراً من تلك الأحزاب التي كانت السلطات ولا تزال إلى حدٍ كبير تسمح بها. وهز القتل الوحشي للزوجين المتقدمين في السن الشارع وشكل البداية لما بات يُعرف بـ"سلسلة القتل في إيران".
الكاتب والمترجم
بعد نحو أسبوعين من تلقي باراستو للأخبار السيئة، كان محمد مختاري قد ودع ابنه البالغ من العمر 12 عاماً خارجاً من منزله في طهران للقيام ببعض الأعمال.
ويتذكر ابنه سوهراب الذي يعيش الآن في ألمانيا هذه اللحظات قائلاً: "آخر ما أذكره عنه هو لحظة مغادرته المنزل. طلبت منه أن يشتري بعض الحليب بينما كان يقف على عتبة الباب. إلا أنه كان مختلفاً بعض الشيء وكأنه شعر بأن ثمة خطبا ما".
كان محمد يبلغ من العمر 56 عاماً، وكان كاتباً وشاعراً وناقداً صريحاً للرقابة التي تمارس على الصحافة في إيران. ولم يعد إلى المنزل منذ ذاك اليوم.
Image caption
أسرة سوهراب ظلت أسابيع لا تعرف مصيره
قضى شقيق سوهراب الأكبر الأيام السبعة التالية يبحث في المستشفيات وأقسام الشرطة في طهران عن والده الذي فقدت آثاره. ما لم يكن يعرفه هو أن جثة ظهرت بالفعل في مصنع أسمنت على أطراف المدينة وذلك بعد يومٍ واحد من اختفاء محمد في الثالث من ديسمبر/كانون الأول. لم تخطر العائلة إلا بعدها بأسبوع. ويقول سوهراب: "تلقى شقيقي مكالمة من السلطات الطبية للحضور وتحديد هوية الجثة. قيل لنا إنه لم تكن هناك أي وثائق أو هوية في جيبه ولذا لم نبلغ في وقتٍ أبكر". ووفقاً للسلطات لم تكن جثة محمد مختاري تحمل سوى ورقة وقلما. كان قد خنق حتى الموت وكانت هناك كدمات حول عنقه.
وفي اليوم نفسه الذي عُرف فيه مصير محمد مختاري، اختفى صديق للعائلة وزميل كاتب هو محمد جعفر بويانده (44 عاماً). كان مترجماً وكاتباً معروفاً في الوسط الأدبي إلا أنه لم يكن معروفاً جداً للعامة. خطف خارج مكتبه وسط طهران في منتصف يوم 9 ديسمبر/كانون الأول. بعد ثلاثة أيام، عُثر على جثته وعليها علامات الخنق.
الرابط القاتل
كان بين مختاري وبويانده قاسم مشترك، فكلاهما كان عضواً في جمعية الكتاب الإيرانيين، وهي الجمعية نفسها التي نظمت رحلة الحافلة إلى أرمينيا قبل عامين. وكلاهما كان ينتقد السلطات بلا تحفظ. أما الجمعية - التي كانت تعمل على جمع التقدميين من الكتاب والشعراء والصحفيين والمترجمين في محاولة لتحدي الرقابة المفروضة - فقد واجهت تقليصاً كبيراً في أنشطتها في ظل الحكومات المتعاقبة قبل أن تحظر في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
وكان فرج ساركوهي أحد أبرز أعضاء الجمعية خلال التسعينيات، وقد وصف كيف تمكنت الجمعية من تجاوز قرار حظرها قائلاً: "إنها موجودة بفضل الدعم الكبير لها. ننظم حفلات عشاء ونناقش أفكارنا خلف الأبواب المغلقة. بعض هذه الحفلات استضفتها في منزلي. كنّا نعرف أنهم يتنصتون علينا ولكن لم يكن لدينا خيار آخر".
Image caption
محمد جعفر بوينانده وزوجته وابنته
في عام 1994، كان هناك نقطة تحول عندما حاول 134 عضواً التعبير عن موقفٍ لهم من خلال توقيعهم لرسالةٍ مفتوحة طالبوا فيها بحرية التعبير في إيران. حظي نص هذه الرسالة التي لم ترَ النور بالكثير من الدعم داخل البلاد وخارجها. ومن بين هؤلاء الذين ساعدوا في كتابة مسودة الرسالة كان فرج ومختاري وبويانده وعدد آخر من الكتاب الذين كانوا على متن تلك الحافلة المتجهة لأرمينيا والتي أُعد لها مصير سيء.
وقبل مقتلهما ببضعة أسابيع فقط عام 1998، استدعي مختاري وبويانده، إلى جانب أربعة كتاب آخرين، إلى المحكمة بسبب جهودهم لتنظيم مؤتمر تابع للجمعية. واستجوبوا وأبلغوا بصرامة بضرورة التخلي عن خططهم.
ويصف سوهراب نجل مختاري جو الخوف الذي ساد المنزل أثناء نشأته وحجم الضغط الذي تعين على أمثال والده معايشته، فيقول: "تلقى والدي تهديدات عدة مرات. أذكر غضبه الشديد في إحدى المرات عندما أخبرتني أمي بذلك مرة". ويضيف: "كان رجال الأمن يتحكمون في كل شؤونه. كانوا يسيطرون على مكالماته الهاتفية وأي اتصال له مع كتاب ومفكرين آخرين يشاركون في النضال من أجل حرية التعبير".
الغضب والتحقيق
لم يكن الاغتيال السياسي شيئاً جديداً في إيران، إلا أن الطبيعة الوحشية لحادث مقتل الزوجين فوروهار حظيت باهتمام الناس.
وتقول باراستو: "ما أثر فيّ جداً هو وحشية قتلهما فأمي طُعنت 24 مرة ووالدي قُتل بغرفة مكتبه حيث وضع على كرسيه باتجاه مكة (القبلة) فيما يمكن اعتباره قتلا ذا طقوس". وتضيف: "كان المجتمع في إيران مصدوماً وغاضباً جداً، ولهذا كان هناك مظاهرة ضخمة عند دفن والدي بحضور الآلاف".
Image caption
الكرسي الذي قتل عليه داريوش وقد وجه صوب مكة
بدأ الناس في الاشتباه بأن ثمة دافعا سياسيا وراء حوادث القتل. اعتبرت هذه الحوادث على نطاق واسع جزءا من صراع على السلطة بين المتشددين الإسلاميين الذين لا يزالون يهيمنون على الخدمات الاستخبارية والإصلاحيين المؤيديين للرئيس محمد خاتمي الذي فاز بالسلطة في عام 1997 بعد تركيزه على المطالبة بمزيد من الحرية والديمقراطية.
وازداد تأثير الضغط حتى أمر الرئيس خاتمي في ديسمبر/كانون الأول من عام 1998 بالتحقيق في حادثة مقتل الزوجين، إلى جانب الظروف المحيطة بمقتل كل من مختاري وبويانده. بعدها بأسابيع قليلة، وفي يناير/كانون الثاني 1999، قالت السلطات في اعترافٍ نادر إن عددا من العملاء المارقين في وزارة الاستخبارات نفذوا عمليات القتل.
كما قالت السلطات إن المشتبه به الرئيسي والعقل المدبر هو نائب سابق لوزير الاستخبارات يُدعى "سعيد إمامي". وقد توفي هذا الشخص في ظروفٍ مريبة في الحجز، وقال المسؤولون إنه انتحر بابتلاع قارورة من منتج لإزالة الشعر.
وبلغ عدد من قدموا للمحاكمة 18 شخصاً. وصدر حكم الإعدام على ثلاثة منهم (إلا أن الحكم خفف لاحقاً للسجن)، بينما حكم على اثنين آخرين بالسجن لعدد مختلف من السنوات وبرأت ساحة ثلاثة آخرين. ومن بين من حوكموا خسرو باراتي الذي أقر لاحقاً بأنه كان سائق الحافلة.
Image caption
سعيد إمامي اتهم بتدبير حوادث القتل في 1998
لكن عائلات الضحايا رفضت نتائج التحقيقات ووصفتها بأنها مزورة. وقد دققت باراستو، ابنة الزوجين الضحية ومحاميتها الحاصلة على جائزة نوبل للسلام شيرين عبادي، في الاعترافات كلها وخلصتا إلى أن "كل المشتبه بهم قالوا إنهم تحركوا بناءً على أوامر من وزير الاستخبارات نفسه. كان هذا ضمن اعترافاتهم لكن المحكمة لم تلقِ بالاً لذلك وتصرفت كما لو كان الأمر يتعلق بأشخاص يقتلون أشخاصاً آخرين دون أي سبب سياسي".
واستقال مدير الاستخبارات قربنالي دوري-نجفاباد من منصبه بسبب القضية، إالا أنه نفى على الدوام ضلوعه فيها. وقد سربت مقاطع فيديو بعد عدة سنوات أظهرت وجود أدلة على استخدام العنف مع بعض المتهمين لإجبارهم على الاعتراف.
Image caption
مقطع من فيديو مسرب يظهر تعذيب أحد المعتقلين
وحقق عدد من الصحفيين الاستقصائيين في القضية بتمحيص وتمكنوا من التوصل إلى روابط بينها وبين عمليات قتل غامضة لكتاب ومفكرين يعود تاريخها إلى أواخر الثمانينيات، تمت بوسائل متنوعة منها الخنق والطعن وحتى الحقن بالبوتاسيوم للتسبب في نوبات قلبية.
وتتعلق إحدى تلك العمليات بأكبر غانجي الذي سُجن لخمس سنوات بعد نشره سلسلة من التقارير أشار فيها بأصابع الاتهام إلى وزير رفيع المستوى في حكومة سابقة، وكذلك بعض كبار رجال الدين. ولم تحقق الدولة في أي من هذه العمليات، ولم يُعرف من يقف وراء معظم حالات القتل هذه.
Image caption
أكبر غانجي سجن خمس سنوات بعد نشر مقالات اتهم فيها وزيرا رفيع المستوى
يعتبر الصحفي فرج ساركوهي نفسه محظوظاً لأنه نجا من رحلة الحافلة التي دبر لها مصيرٌ سيئ. ولكنه بقي مع ذلك مستهدفاً. فلم يكن قد مضى وقت طويل حتى اختطفته وكالة الاستخبارات السرية في إيران ولم ينجُ من حكم الإعدام الذي صدر عليه إلا بعد تدخل المجتمع الدولي. أما الآن فهو يعيش في منفى اختياري في ألمانيا.
أما سوهراب الذي قتل والده قبل بلوغه العشرين، فقد كان مقتل والده "نهاية العالم"، كما يقول، إذ "لم أستطع حقيقةً أن أفهم ما حدث. لم أكن أعرف شيئاً عن الحياة والموت في ذاك السن".
أما باراستو فهي الآن فنانة حائزة على جوائز ولا تزال تقيم في ألمانيا، إلا أنها تعود إلى طهران في كل خريف لإحياء ذكرى مقتل والديها. وتقول إن السلطات غالباً ما تحاول منعها هي وعدد من أقارب الضحايا الآخرين من إحياء الذكرى، وتضيف: "مرت عشرون سنة ولا تزال الذكرى حاضرة في أذهاننا بقدر حضور الأمل في تحقيق العدالة".
إضافة تعليق
- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً