الرئيسية - تقافة وفن - قراءة لنص " زفرة الروح " للشاعر / أديب بادي
قراءة لنص " زفرة الروح " للشاعر / أديب بادي
الساعة 02:25 صباحاً (الميناء نيوز- خاص)
" زفْرَةُ الرُّوحْ " أواعدُ نفـسِي بالأماني وأخلفُ وأجهلُ مابي من عناءٍ وأعرفُ وكيفَ لِمَن ذاقَ المراراتِ أن يرى مــقــامـاً بــهِ يلهُو صباحاً ويعزفُ ؟! وبي مُهجةٌ كلمَى وعينٌ قريحةٌ وقلبٌ مُعنَّى بين جنـبيَّ ينـزفُ وكفَّانِ كفٌّ يمسحُ الدَّمعَ راحُهَـا وكفٌّ على الأخرى تحِنُّ وتعطفُ وبي كُلَّمَا لاحتْ بروقٌ وشَعْشَعتْ على الأفْقِ تيَّارٌ من الوجدِ يعصفُ ولي موطنٌ ما زالَ في القلبِ حبُّهُ حـنـينـي إلــى لُـقـيــاهُ كــــم يــتــلـهـفُ " أما آنَ يا روحي بأن تهجري الأسَى ؟! أقـــولُ وروحــــي بــــالأسَـــى تــتــألــَّفُ تُداريكِ أحــزانٌ وتـُلـهـيـكِ أنـجـمٌ وتشجيكِ أنغامٌ وتُبكيكِ أحرفُ وأصبرُ حتَّى يبلغَ الصَّبرُ مبلغاً تــرانــي بـــهِ الأحـزانُ لا أتـكـلـفُ ولـكنَّني ما زلتُ أطوي مراحـلـي طـمــوحــاً إلـى العلـيـاءِ لا أتـوقـَّـفُ صبورٌ على الـبـلوى كــريمٌ مــسـامحٌ إذا مـــــا ازدرانـــي شــامــتٌ أتـعــفــَّفُ ليلقَى الذي زارَ الذُّرى ما يرومهُ ويبقَى عثيرُ الصَّخرِ من سارَ يزحفُ فــيـا فـجـر هذا اللَّيلِ هل أنت قـــادمٌ ؟ سيمحُو السَّنا كلَّ الذي عنكَ زيفوا ُ وقل لـلذي ذاقَ العـجافَ ومـرَّهـا بأنّ غـداً من روضهِ سوفَ نقطفُ وإنَّا وإنْ أمسَى بِنَا الجرحُ مُثخنًا ولم نلقَ من يحنُو علينا ويرأفُ وأضحتْ أمانينَا أوابدَ دربِنَا وما لأنَاةِ العقلِ في القومِ (أحنفُ) لنا السُّنبلاتُ الخضرُ من عهدِ يوسفٍ ومن ثوبهِ ِالزَّاهي رداءٌ ومعطفُ غداً تهطلُ البُشرَى وتسقِيْ رحابَنَا وتزرعُ بالآمالِ روضاً وتنصُفُ ✍ أديب بادي 👑 ======================== إطلالة ينطلق الشاعر أديب بادي نحو النص من خلال زفرات الروح فينظم من خلجاته عواطفا حزينة تغمر النص بفيض من شلال حزين يوقع المشاعر من خلال التهاصر مع تفعيلات البحر الطويل ذلك البحر الذي يستوعب التجارب العانية ويمنحها إيقاعا ضانيا يتردد مع نبضات القلب صعودا وانخفاضا . حيث جاء الشاعر إلى النص يحمل رصيدا من القيم المتضادة يعبر من خلالها عن ذاته المكلومة حيث يجسد الصراع السيكلوجي بأبعاده المختلفة يأسا وأملا وتفاؤلا وقنوطا وهو بهذا المنحى يسجل نبضات التردد من حيث الأثر والتأثير في الواقع الراهن . فالشاعر جاء إلى النص متأثرا بالحدث ومضاعفاته الكارثية حيث يعبر عن ذاته المكلومة وما تلك الذات إلا عينة تمثل رحابا كبيرا يمتد من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق بكل فئاته وتنوعاته الديمغرافية . حيث يرصد الشاعر الحدث من خلال انعكاسات المآسي من بؤر الوطن المشلول فيصب المشاعر الضانية في قوالب الحروف بانتظام تسلسلي يحكي ترتيب الأفكار والمضامين بامتزاجاتها الفنية المتكئة على الخيال والصورة في إطار النص الحي المعبر عن شخصية الشاعر وتقلباتها الحالية . ما انفك الشاعر يردد إيقاعاته الحزينة يتغنى بأزمته الفاشية بموال حزين يمزجه بتبادل مقصود يتهاصر مع اليأس والأمل والتفاؤل والقنوط غير أنه في الثلث الأخير من النص قد غلب الأمل والتفاؤل وختم النص بإشراقة نورانية تنبعث من قلب مازال يحن إلى السلام حيث يدعو إلى التغيير من خلال القيم الفنية برموزها المتناصة مع القرآن الكريم والأخلاقية المنبثقة من مبادئ التفاؤل والأمل داعيا إلى التسامح والمحبة والسلام . أولا : العنوان " زفْرَةُ الرُّوحْ " . الزفرة هي الدفعة الواحدة من النفس نتيجة الحزن وهي ضد الشهقة وبين الزفرة والشهقة تضاد المطابقة بين ثنائية خروج الهواء ودخوله في الرئتين . فالزفرة شيء زائد عن عملية التنفس الطبيعية حيث تقترن بشجى وضيق في الصدر نتيجة الأحداث والعوامل السيكلوجية والبيئية المحيطة بالشاعر تنتج من رهان النوائب والأحداث التي تلقي بجرانها على النفس محدثة أزمة نفسية يتأثر بها الجهاز التنفسي للإنسان في بؤرة الاحترار . حيث أضاف الشاعر الزفرة إلى الروح الأمر الذي أكسبها بعدا دلاليا يختلف عن المضمون المتعارف عليه في عملية الشهيق والزفير حيث يعبر العنوان عن الحالة النفسية وأزمة الذات الشاعرة في في مسار الحياة نتيجة تقلبات الأوضاع وانعكاس مأساة الوطن وتفاقم أحداثها العانية . ثانيا : استهلال النص أواعدُ نفـسِي بالأماني وأخلفُ وأجهلُ مابي من عناءٍ وأعرفُ وكيفَ لِمَن ذاقَ المراراتِ أن يرى مــقــامـاً بــهِ يلهُو صباحاً ويعزفُ ؟! استهل الشاعر نصه بثنائية بين حدثي "الوعد والخلف" و" الجهل والعلم " حيث تظهر المطابقة بين " أواعدُ " " أخلفُ " . " أجهلُ " " أعرفُ " . بالإيغال بمضمون التضاد نحو العمق والإيحاء كون انطلاق الشاعر من الأبعاد الواقعية يسند الأحداث إلى سيكلوجيته المتأزمة من خلال الخطاب المرتد من الذات إلى الذات . حيث يظهر الشاعر من خلال الخطاب الذاتي برؤى فلسفية قياسية في الإطار النسبي المتجسد من الصدى الانعكاسي كون الشاعر يعبر عن الواقع من خلال الالتفات إلى الذات بإسقاطات نوعية تنزل الخاص على العام كون الحاصل للذات يعم المجتمع بعدا واستراتيجية . كذلك نلحظ مجيء الأحداث في البيت الثاني تسند إلى ضمير الغائب باختلاف أزمنتها ما بين الماضي والمضارع : [ ذاق - يرى - يلهو - يعزف ] . حيث مزج الشاعر الأحداث في إطار أسلوب الاستفهام الإنشائي بدلالته البلاغية الدالة على الإنكار الممتزج بالمفارقة والدهشة المتكئين على التضاد بين حدثي المذاق المر ومقام اللهو حيث ندرك خط الممانعة من تناقض الحالين بؤسا وسرورا كون حال المرارة يمنع من تجسيد حال السرور . فالشاعر استهل النص مضخما تيمة الألم والحسرة من خلال تنويع الخطاب الذاتي باستخدام استراتيجية الالتفات بين ضمير المتكلم والغائب مع توظيف المستوى البلاغي بالمطابقة بين الأحداث في رهان التضاد ثم المزج بين الخبر والإنشاء بتجسيد المسار العام للنص من خلال تيمة الحزن الممتزجة بإطار التوجه الرومانسي ببكائياته العانية . حيث تومض الإشارات بكثافة في سماء النص تروي الأحداث بمأساوية تعبر عن ذات الشاعر وارتباطاتها بالضمير الجمعي في زمكان البيئة اليمنية الساخنة . ثانيا : ألم الذات وغربة الوطن وبي مُهجةٌ كلمَى وعينٌ قريحةٌ وقلبٌ مُعنَّى بين جنـبيَّ ينـزفُ وكفَّانِ كفٌّ يمسحُ الدَّمعَ راحُهَـا وكفٌّ على الأخرى تحِنُّ وتعطفُ وبي كُلَّمَا لاحتْ بروقٌ وشَعْشَعتْ على الأفْقِ تيَّارٌ من الوجدِ يعصفُ ولي موطنٌ ما زالَ في القلبِ حبُّهُ حـنـينـي إلــى لُـقـيــاهُ كــــم يــتــلـهـفُ " في الأبيات الآنفة يدفق الشاعر اللوعة ويجتر الحزن من مهجة كلمى وعين قريحة حيث تحتر ثنائية "المهجة والعين" بتأثير العواطف المنصهرة في الحنايا حيث يسري الضنى مع دقات القلب يضخ الحسرات آلاما تجري مع الدماء المتدفقة في الأوردة والشرايين . حيث نلحظ الشاعر بحساسيته المفرطة يتأثر بالبيئة في رحاب الزمكان يمزج الحال بالمآل ويسجل موجات الحزن من خلال نبضات القلب العاني حيث يقصر كلم المهجة على ذاته باستراتيجية الاهتمام بالمتقدم . "وبي مُهجةٌ كلمَى" . فطريق القصر تترجم حال الشاعر المأزوم بتقديم الجار والمجرور المعبر عن الذات الشاعرة في معرض المشهد الواقع في رهان الوطن المكلوم . فحدثا " الكلم - النزف " يتكاملان بتجسيد الصورة المأساوية التي يعيشها الشاعر في عوان البؤس حيث يخضع لنزيف روحي حاد يدفق الألم شلالا في دولاب الحنايا العانية . يستأنف الشاعر من خلال ثنائية الكفين يرسم لوحة حزينة تعبر عن مشهد التعاطف الذاتي تنهمر بمشاعر تراجيدية تقرب الحال العاني في صورة شاعرية تهطل بالحنو والشفقة من خلال الجو الرومانسي الحزين كونها تعبر عن روح التآزر الذاتية لجسد الشاعر حيث نلحظ التكامل والمساندة بين الكف والكف فالأولى تمسح دموع الأسى بينما الأخرى تبذل العطف والمواساة . والشاعر بهذه الروح الاجتماعية في إطار الذات يعبر عن استراتيجية التماسك الأسطوري ليبني جسر الثبات الذاتي من خلال بث الرضا والطمأنينة في مسار القلق والاضطراب كونه يحمل رصيدا من الصبر لمواجهة الحوادث والمتغيرات في ثكنات المآسي والحروب . وبي كُلَّمَا لاحتْ بروقٌ وشَعْشَعتْ يخرج الشاعر من طور الذات الحزينة ليمتزج بالأفق حيث يتهاصر مع ظاهرة البرق وارتداداته من خلال إسقاطات الأشواق والحنين المتناصة مع أساليب الشعر العربي في طور ازدحام العواطف والتعبير عنها بقيم فنية تنصهر بالذات في قوالب الحروف حيث يستدعي الظواهر الطبيعية المشاهدة ليسقط من خلالها عواطف الحنين والمحبة بما يضفيه البرق من إيحاء نفسي يستروح الشاعر من خلاله الأجواء الشاعرية الوارفة . حيث تلتقي إيقاعات الشاعر السيكلوجية مع الإيقاعات الكونية نتيجة إحساس الذات الشاعرية بالتعلقات المتناظرة في الطبيعة مع الروح في إطار التقارب البيئي المتسابق مع رهان الزمكان . ْ على الأفْقِ تيَّارٌ من الوجدِ يعصفُ مازال الشاعر يمدنا بالأحداث الفاعلة للحزن في ذاته من خلال التعدد النوعي للمؤثرات الخارجية حيث نلحظ هنا استبداد الوجد وقص حوادث الحب بصورة تراجيدية يتناص فيها مع رواد مدرسة الحب العذري حيث يجسد رومانسيته من خلال الإيحاء المكثف المحمول على مفردات : [ الأفق - التيار - الوجد ] . مع تجسيد الحدث المتجدد في المضارع " يعصف " . حيث تفيد كلمة " كُلَّمَا " ارتباط الحدث الذاتي بالحدث الطبيعي فالشاعر يربط بين عواطفه والظواهر الطبيعية بآلية إيقاعية يتأثر بها شعور الذات ويرتبط بها اختفاء وظهورا . حيث توقع الذات الحركة والسكون من خلال تكرر الظاهرة في المشهد الكوني . فالشاعر هنا يمزج بين التلقائية والإيحاء ليؤكد التجربة الشعرية بأبعادها المتمحورة بين الشفافية والضبابية والتصريح والتلميح حيث يحمل في ذاته رصيد القيم الفاضلة والتي يسعى من خلالها تعميم المبادئ والالتزام بها في إطار الأحداث المؤثرة في تجربته حزنا وألما وحبا وأشواقا . ولي موطنٌ ما زالَ في القلبِ حبُّهُ يلتفت الشاعر هنا إلى قضية أساسية ترتبط بكل القضايا المصيرية التي تهم الشاعر حيث قدم الجار والمجرور " ولي " ليجسد قصر قضية الوطن على ذاته من خلال طريق القصر وهي تقديم ما حقه التأخير ليجسد قضية الوطن في ذاته بكل أبعادها الاستراتيجية حيث يأتي الفعل الناسخ " مازالَ " يرسخ استمرار ذلك الحب في القلب بآلية تجري مع نبضات القلب وحركات الشهيق والزفير . استخدم الشاعر استراتيجية بلاغية تظهر من خلال أسلوب القصر بتقديم ما حقه التأخير من أجل الاهتمام بالمتقدم وقصر الحدث عليه وتظهر هذه الاستراتيجية البلاغية من خلال التركيبات التالية : وبي مُهجةٌ كلمَى وبي كُلَّمَا لاحتْ بروقٌ ولي موطن ما زالَ في القلبِ حبُّهُ حيث نلمح في المتقدم صفة الذات الشاعرة التي قصر عليها الشاعر الأحداث المتجسدة في "كلم المهجة" و" لوح البروق" . و"حب الوطن" . واستمرار ذلك الحب حيث يجعل الشاعر من ذاته محور الحدث وبؤرة الشد لكل الأحداث داخل النص فالشاعر بدينامكيته الإيقاعية يرصد المؤثرات الخارجية ويتأثر بها سلبا وإيجابا وتلك هي مقومات الشاعر التاريخية والبيئية في إطار التماس مع الزمان والمكان . حـنـينـي إلــى لُـقـيــاهُ كــــم يــتــلـهـفُ يصل الشاعر هنا إلى قمة الأسى مجسدا تيمة الحزن من خلال الانفصام الواقف بين الشاعر ووطنه نتيجة اختطاف الوطن وتشطيره تحت شعارات عنصرية ومناطقية اضطرمت من خلالها الحرائق والتغريب . فالشاعر بفلسفته العميقة تجاه الوطن يعبر عن ذاته وحنينه إلى السلم والحب يهرق صوابي الأمنيات في أفق السلام لتزهر الحياة ببلسم شاف يطبب الوطن من داء الحقد والأنانيات . وحين نسبر رؤية الشاعر وفلسفته من خلال أبعاده الصوفية في الإحالة والمحال ندرك الانفعالات السيكلوجية المرتدة في افتراض حدثين متوازيين حدث الحضور وحدث الغياب وبين ثنائية الحدثين تقف ذات الشاعر تمتد نحو البعد والحضور بمد وجزر يلامس الحقيقة والخيال في إطار الأشواق والألم . فالشاعر حاضر في الوطن بذاته وبعيد بمشاعره وخيالاته حيث يبحث عن " يوتوبيا الحب " عن مدن الأمن والسلام يجسد من خلالها الأحلام الوارفة نحو الآمال في رحلة هروب افتراضي من الحرب إلى المدن الفاضلة . ثالثا : بين اليأس والأمل أما آنَ يا روحي بأن تهجري الأسَى ؟! أقـــولُ وروحــــي بــــالأسَـــى تــتــألــَّفُ تُداريكِ أحــزانٌ وتـُلـهـيـكِ أنـجـمٌ وتشجيكِ أنغامٌ وتُبكيكِ أحرفُ وأصبرُ حتَّى يبلغَ الصَّبرُ مبلغاً تــرانــي بـــهِ الأحـزانُ لا أتـكـلـفُ ولـكنَّني ما زلتُ أطوي مراحـلـي طـمــوحــاً إلـى العلـيـاءِ لا أتـوقـَّـفُ صبورٌ على الـبـلوى كــريمٌ مــسـامحٌ إذا مـــــا ازدرانـــي شــامــتٌ أتـعــفــَّفُ ليلقَى الذي زارَ الذُّرى ما يرومهُ ويبقَى عثيرُ الصَّخرِ من سارَ يزحفُ جاء الحدث " آنَ " مرتبطا بأسلوب النداء "ياروحي" مجسدا الألم من خلال الخطاب الذاتي المرتد من عجز البيت على صدره لتجسيد التكرار المؤكد بين ثنائية : "الروح - الأسى" . لتحديد محل الأثر والمؤثر في نطاق الذات العانية . حيث ينطلق الخطاب الذاتي محملا بعواطف ضانية تنهمر من خلال أسلوب الاستفهام بدلالاته البلاغية المعبرة عن الاستعطاف والاسترحام . حيث تأتي الأحداث : [ آن - تهجري - أقول - تتألف ] . تحمل دلالات متباينة كلها تعبر عن الأزمة السيكلوجية التي يعيشها الشاعر في ثكنات الألم والحسرات حيث يفقد الشاعر وسائل التحكم في إدارة أزمته نتيجة التفاقم القاهر من خلال احتلال الأسى لمشاعره بالترويض والتطبيع . جاءت الأحداث في البيت الثاني من المقطوعة الآنفة تحتفل بمضامين احترافية تجسد الحالة النفسية للشاعر بارتباط ثنائي يكشف عن الأبعاد الدلالية في طور الآلام حيث يوقع الشاعر الأحداث من خلال استراتيجية التقسيم : تُداريكِ أحــزان وتـُلـهـيـكِ أنـجـمٌ وتشجيكِ أنغامٌ وتُبكيكِ أحرفُ كذلك نلحظ ربط الشاعر بين المسند والمسند إليه بآلية تنتظم الروابط النحوية في إطار كرنفال المشهد الذي يجمع بين ثنائيات : " المداراة - الحزن " و" اللهو - الأنجم " و" الشجو - الأنغام " و" البكاء - الأحرف " . حيث ينطلق الشاعر ثملا من سكرات الآلام يبعثر المضامين بين الوعي واللاوعي يوقع الأحداث بأسلوب سريالي يطل من خلاله ساكبا حر المشاعر بغير حدود حيث يرخي العنان لخياله يرحل ممتزجا مع الحزن والأنجم والأنغام والأحرف ليؤلف من هذه المشاهد حالات مختلفة تعبر عن قلق الشاعر في إطار الدهشة والمفارقة . بعد تجسيد الألم والحزن يتكئ الشاعر على رصيد أخلاقي يواجه به الأحداث من خلال تجسيد قيم الصبر والطموح والتسامح والعفة يظل يناطح بهمته الأحداث بعيدا عن ضعف النفس واستسلامها . وأصبرُ حتَّى يبلغَ الصَّبرُ مبلغاً ما زلتُ أطوي مراحـلـي طـمــوحــاً إذا مـــــا ازدرانـــي شــامــتٌ أتـعــفــَّف ويبقَى عثيرُ الصَّخرِ من سارَ يزحف نلحظ تجسد الذات الشاعرة من خلال إسنادها إلى الأحداث بصور مختلفة تتنوع بتنوع ضمائر المتكلم كالضمير المستتر "أصبر - أتعفف" وتاء الفاعل " مازلتُ " وياء المتكلم " أطوي - ازدراني " . فالشاعر يمتزج بالنص من خلال الخطاب المرتد من الذات إلى الذات حيث يتناص مع الشنفرى وعنترة من حيث الإكثار في إبراز القيم والفضائل لإثبات التفرد عن المجتمع الذي يحتقرهما بالسواد والعبودية حيث جاء الإكثار من القيم الإخلاقية قولا وفعلا كردات فعل من أجل إثبات الوجود والوصول إلى الشرف المسلوب بالجهد الذاتي بعيدا عن القبيلة والنسب كون ما يتصفون به من قيم الشجاعة والعفة هو مضمار السبق نحو الحرية والسيادة . والشاعر بإكثاره من تلك القيم الأخلاقية ما هو إلا ردات فعل أمام أحداث الدكتاتورية والاستبداد والتي تشابهت كثيرا مع فوضى الجاهلية الأولى في استلاب الحقوق والحريات الفردية والإنسانية والاجتماعية والشاعر بهذه القيم يريد رد الاعتبار لذاته وقيمتها فلا يمكن الوصول إلى الحرية والعدل والحب والسلام إلا من خلال تلك القيم الخالدة . رابعا : روافد الأمل فــيـا فـجـر هذا اللَّيلِ هل أنت قـــادمٌ ؟ سيمحُو السَّنا كلَّ الذي عنكَ زيفوا ُ وقل لـلذي ذاقَ العـجافَ ومـرَّهـا بأنّ غـداً من روضهِ سوفَ نقطفُ وإنَّا وإنْ أمسَى بِنَا الجرحُ مُثخنًا ولم نلقَ من يحنُو علينا ويرأفُ وأضحتْ أمانينَا أوابدَ دربِنَا وما لأنَاةِ العقلِ في القومِ (أحنفُ) لنا السُّنبلاتُ الخضرُ من عهدِ يوسفٍ ومن ثوبهِ ِالزَّاهي رداءٌ ومعطفُ غداً تهطلُ البُشرَى وتسقِيْ رحابَنَا وتزرعُ بالآمالِ روضاً وتنصُفُ يشحن الشاعر هذا المقطع بروافد الأمل والتفاؤل يتكئ على فلسفة روحية تنطلق من عقيدة راسخة تؤمن بقضية الحرية وتستند على منطق العقل توظف الرؤية الثاقبة وبعد النظر وسبر الأحداث وانتظار انقشاع الظلمة وانبلاج النور . حيث يأتي النداء المضاف إلى اسم الإشارة متعانقا مع أسلوب الاستفهام يزفان الأمل والبشرى فــيـا فـجـر هذا اللَّيلِ هل أنت قـــادمٌ ؟ حيث يدلان على الاستبطاء والاستعطاف فالتضايف الثلاثي بين الفجر واسم الإشارة "هذا" وبين "الليل" يعطى صورة عن الابتداء والانتهاء فالليل يعقبه الفجر والترقب الشاعري يرصد المطالع انتظارا لبزوغ الأنوار والاستفهام يأتي موجها نحو الفجر نتيجة استبطاء الظهور . سيمحُو السَّنا كلَّ الذي عنكَ زيفوا ترتبط السين بحدث المحو فتحيله للمستقبل وكأن الشاعر يدرك تأخر الفجر غير أن هذا التأخر لا يستمر سرمدا سينفلق يوما ما ولذا يأتي الشاعر بلفظ العموم "كل" في إطار المفعولية مضافا إلى اسم الموصول " الذي " ليزيح عن عقيدة انبلاج الفجر كل التعميمات والأقوال المشككة في ظهوره حيث تجسد عقيدة الشاعر روافد الأمل في رهان الانتظار بعيدا عن اليأس والملل . ثم يأتي الطلب " قل " موجها للمخاطب يجسد دلالة الالتماس بالتوجيه نحو : " للذي ذاقَ العـجافَ ومرها " حيث يستعير لفظ العجاف من سني يوسف متناصا مع القصة القرآنية متقمصا الحال هناك لإسقاطه هنا فالوضع الراهن الناتج من الحرب والجدب يتشابه كثيرا مع طرفي القصة القرآنية في سورة يوسف حيث يدور إسقاطها بوعي شاعري ليماثل ثنائية الشدة والنعمة بين البيئة التاريخية والبيئة المحلية في زمكان الوطن المحروق . بأنّ غـداً من روضهِ سوفَ نقطفُ يأتي الخطاب مؤكدا " بأنّ " حيث أنزل المخاطب منزلة المتردد ليزيل كل الشكوك المحيطة بانبلاج الفجر وانفراج الغمة فالصورة البلاغية تجعل من الظرف " غداً " انزياحا نحو المستقبل يزهر بالرياض ويتدلى بالثمار وفي ذلك صورة كنائية تجسد التحول من الحرب إلى السلم ومن الجدب إلى النعمةً ومن الشدة إلى الرخاء ومن الكره إلى الحب ومن الفرقة إلى الاجتماع . وإنَّا وإنْ أمسَى بِنَا الجرحُ مُثخنًا ولم نلقَ من يحنُو علينا ويرأفُ وأضحتْ أمانينَا أوابدَ دربِنَا وما لأنَاةِ العقلِ في القومِ (أحنفُ) هنا الشاعر يؤكد الانفراجة المضيئة من وراء الحدث العاني على الرغم من الأمسيات المؤلمة وإثخان الجراح الغائرة وعلى الرغم من غياب الراعي الحنون والحاكم العادل واختفاء قيم الحب والرأفة حتى وإن توحشت الأماني واستبد الدرب وماتت الأناة والرفق مازال الشاعر يحمل مشاعل الأمل ومنارات الهداية نحو الانفراج من حال البؤس إلى السعادة ومن الحرب إلى السلم ومن الفقر إلى الغنى ومن الظلم إلى العدل حيث يتخذ من شخصية الأحنف في تاريخ الثقافة العربية رمزا للحلم والعدل والأناة والرفق . والشاعر بهذا الطرح يغلب جانب التفاؤل على اليأس والأمل على القنوط يتجاوز الضيق نحو الانفراج والأزمات نحو السلامة ما انفك عن درب البشائر وانتظار الخير لأنه يعلم من فقه المحن كنوز المنح فالعسر يعقبه يسران حيث يتكئ على رصيد من الحكمة والدين يبعث في روحه إيقاع الأمل مهما اسود الليل واكفهر الوضع الجاثم . لنا السُّنبلاتُ الخضرُ من عهدِ يوسفٍ ومن ثوبهِ ِالزَّاهي رداءٌ ومعطفُ غداً تهطلُ البُشرَى وتسقِيْ رحابَنَا وتزرعُ بالآمالِ روضاً وتنصُفُ يختم الشاعر بتناص موضوعاتي وعاملي يحلق نحو الفضاء الديني والتاريخي يتهاصر مع سني يوسف في سنبلاتها السبع التي أعقبت السبع العجاف حيث يتخذ من رمز "السنبلات الخضر " دق وتر التفاؤل بالخير على أمل تغيير الحال من الضد إلى الضد فثقافة الشاعر الدينية قوت لديه الوعي من خلال الإدراك العقائدي المتهاصر مع محنة نبي الله يوسف بنموذجها القرآني عموما وخصوصا . حيث يتقمص الشاعر محنة نبي الله يوسف من الطفولة إلى الوزارة وما تخللها من مراحل التآمر عليه من إخوته ووضعه في الجب وبيعه بثمن بخمس وخضوعه للعبودية ثم التحرش الجنسي به من قبل زليخا زوجة الوزير ونساء الأعيان في مصر ثم حبسه في السجن ثم ما من الله به عليه من البراءة من الإثم والخروج من السجن منتصرا على محنته بأبعادها التآمرية . ومن ثوبهِ ِالزَّاهي رداءٌ ومعطفُ هنا يتخذ الشاعر من ثوب نبي الله يوسف المرسل إلى أبيه رمزا للعودة من العمى إلى البصر حيث يسقط هذه الحالة على الوطن الذي فقد البصر والبصيرة فالشاعر مازال ينتظر معجزة إلهية تشبه ثوب يوسف تعيد الوعي والإدراك للأمة لانتشالها من كهوف الجهل والظلام نحو النور والبصيرة . حيث يأتي الظرف " غداً " يبشر بمستقبل واعد تهطل فيه البشرى وتسقي الرحاب بغوادي الحب والألفة والأمن والسلام فالحدثان "تهطل - تسقي" يحملان دلالات وارفة تهضب بدجون مسجمة تكاثف الغضارة وتسكب مزن الخير بعطاء غير محدود . حيث يأتي الشاعر بعدهما بالحدث " تزرع " ليعطي دلالة أخرى تتكئ على حدثي " الهطول - السقي " حيث يتم بعد نزول الغيث اتخاذ وسائل الزراعة لإنبات الزرع ثم الإثمار والحصاد . فالشاعر بهذه الخاتمة جسد الأمل والتفاؤل بعيدا عن اليأس والقنوط لأن بعد الليل فجر وبعد القحط نعمة وبعد البؤس سعادة فبهذه التجليات الشاعرية يستحق أن نلقبه بشاعر الأمل حيث اتخذ الأمل استراتيجية ينطلق من خلالها إلى تعبئة الأمة نحو التغيير بعيدا عن ثكنات اليأس والإحباط لأن عوامل المقاومة تعمل على دحر الدياجير المحيطة بها من كل مكان . 14/4/2018 م كتبه/ إبراهيم القيسي
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص